سورة هود - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


{وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)}.
التفسير:
تعرض هذه الآيات قصة أخرى من قصص الصّراع بين الحق والباطل.. كما عرضت الآيات السابقة قصّة من قصص هذا الصراع.. ليكون في ذلك مزيد من العبر والعظات، يتمثلها النبىّ ومن آمن معه، من جهة- فيجدون فيها عزاء لهم، وصبرا على ما يلقون من عنت وعناد، كما يتمثّلها الكافرون والمشركون من أهل مكة- من جهة أخرى- فيجد أهل النظر فيها دعوة مجدّدة إلى الإيمان باللّه، واللّحاق بركب المؤمنين، قبل أن يحل بهم ما يحلّ بالمكذبين من بلاء ووبال.
قوله تعالى: {وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ}.
تلك هى دعوة هود إلى قومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} وهى دعوة كلّ نبى إلى قومه.. الإيمان باللّه، وإخلاص العبودية له وحده.
وفى قوله تعالى: {أَخاهُمْ هُوداً}.
إشارة إلى أن هودا ليس غريبا عن القوم، وإنما هو منهم، وأخ لهم، كما أن محمدا هو من قريش، وأخ، وابن أخ لهم.
وفى قوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} كشف لهذا الباطل والضلال الذي يمسك به القوم، ويعيشون فيه.. إنه من مفترياتهم التي ولدتها أوهامهم وأهواؤهم.
{يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ}.
والدعوة إلى اللّه، دعوة خالصة للّه، لا يطلب الداعون- وخاصة الأنبياء- أجرا عليها، فاللّه سبحانه وتعالى هو الذي دعاهم إلى حمل هذه الدعوة، وهو سبحانه، الذي يتولى جزاءهم، ويوفّيهم أجرهم.
وقوله: {فطرنى} أي أنشأنى من عدم، وأخرجنى من الأرض كما تخرج النبتة، فينفطر لها (أي ينشق) أديمها حتى ترى النور، وتتنفس أنفاس الحياة.
وفى هذا ما يكشف عن قدرة اللّه، وآثار رحمته في هذا الإنسان، الذي كان نطفة.. ثم إذا هو خصيم مبين! {وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ}.
المدرار: الكثير المتتابع، وأصله من درّ للّبن، إذا اجتمع في الضرع، وغزر.
والمدرار الذي يرسله اللّه من السماء: هو الغيث الذي تحيا به الأرض، وتخرج به الحبّ والنبات، والذي به تطيب حياة النّاس، ويكثر فيهم الخير، وتقوى به أيديهم على أن تطول الكثير مما يشاءون من أسباب القوة، والحياة، والسلطان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ}.
وفى قوله تعالى: {وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} تحذير لهم من أن يرفضوا هذه الدعوة المباركة، التي تصلهم باللّه، وتفتح لهم أبواب رحمته، وتسوق إليهم غيوث رزقه.. فإن هم أعرضوا وتولّوا فقد أجرموا في حقّ أنفسهم، وجنوا عليها.
وقوله تعالى: {مجرمين} حال من الفاعل، وهو الواو في تتولوا.. أي لا تعرضوا عن الاستجابة لى، محمّلين بهذا الجرم الذي أنتم فيه، والذي لا يخلصكم منه إلا الاستجابة لما أدعوكم إليه، والإيمان باللّه.
{قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ}.
البيّنة: البرهان، والدليل.. اعتراك: أي أصابك، وأصله من العور، والعوار، وهو آفة تعرض للشىء فتفسده، ومنه اعتوره بالسيف، أي ضربه به، فأفسد بعض أعضائه، أو أفسد كيانه كلّه.. ومنه العور، وهو عمى إحدى العينين.
والردّ الذي ردّ به القوم على هود- عليه السلام- هو الذي يلقى به المكابرون المعاندون كلّ دعوة حق.
إنهم يطلبون بيّنة من هود وإلّا فإنهم لا يأخذون بأية دعوة قوليّة، ولو كانت تحمل الخير خالصا مطلقا.. {ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ}.
والبينة التي يطلبونها، هى آية ماديّة، تقهرهم، وتضطرهم اضطرارا إلى الإيمان.. ولو أنه جاءهم بكل آية ما آمنوا، لأنهم غير مستعدّين للإيمان.
فإن المستعدّ للإيمان، وتقبّل الخير، لا يحتاج إلى دليل يظاهره، ولا إلى بيّنة تشهد له، وحسب الإيمان باللّه، ما يحمل في ذاته من أمارات الفلاح، وما يسوق بين يديه من عافية ورزق كريم! ولكن العناد كثيرا ما يفسد على المرء رأيه، ويقطع عليه الطريق إلى الخير.
لا لشىء إلا لأنه مدعوّ إليه من إنسان مثله، ومحمول له على يد واحد من أبناء جنسه!- {وما نحن لك بمؤمنين}.
كأنهم إنما يؤمنون لحساب هود وكأن إيمانهم- إذا آمنوا- مما يكسب هودا سلطانا عليهم، ويقيم له دولة فيهم.
فهم لهذا يضنّون عليه بالاستجابة له، ولو كان في ذلك تفويت للخير الكثير الذي يقع لأيديهم من الإيمان.. إذ يرون- في تصورهم الباطل هذا- أن ما يصيبهم من خير- إن كان في دعوة هود خير- هو دون ما يصيب هودا نفسه، إذا هم آمنوا له.. فليكن منهم هذا الإعراض عنه، حتى لا يستحدث بإيمانهم له مكانا عاليا فيهم.. وهكذا يفعل الجهل، والحسد.. بالناس!- وقوله تعالى: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ} هو قول منهم في مقابل القول الذي قاله هود لهم.. فالأمر في نظرهم لا يعدو أن يكون كلاما في كلام، وأنه إذا كان لهود أن يقول ما قاله لهم، فليقولوا هم له، وليرموه بالضلال كما رماهم هو بالضلال.. {إن نقول إلّا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} أي ليس لنا ردّ على قولك إلا هذا القول، وهو أنك قد أصبت في عقلك بخبل أو جنون، من بعض آلهتنا التي تطاولت عليها، ودعوتنا إلى ترك عبادتها.. فخذ منها الجزاء الذي تستحقه! {قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ} أي إنى أشهد اللّه عليكم، بأنى قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، كما أشهدكم أنى برىء من هذا الشرك الذي أنتم فيه، ومن التعامل مع هذه الآلهة التي تعبدونها من دون اللّه.
{فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
كيدونى: أي كيدوا لى، وخذونى بما تستطيعون من كيد، والكيد:
إعمال الحيلة، وإحكام التدبير، لما يراد من الأمور.. ويستعمل الكيد غالبا في الشر.
ثم لا تنظرون: أي لا تتوانوا في إعمال كيدكم لى، والمبادرة به.
وهكذا ينتهى الموقف بين هود وقومه، كما انتهى إليه الأمر بين نوح وقومه، وكما انتهى إليه أمر كل نبى مع قومه.. القطيعة، والترامي بالنّذر، وانتظار كلّ لمفعول ما أنذر به صاحبه.
إنى أشهد اللّه عليكم بما بلغتكم من رسالته إليكم، وأشهدكم أننى برىء مما تعبدون من دونه من أصنام.. وهأنذا بين أيديكم، أنتم وآلهتكم، فكيدوا إلى كيدكم، وعجلوا به. {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} فأنا من توكلى عليه في قوة، وفى منعة. {ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها} أي ما من دابة تدب على هذه الأرض إلا واللّه سبحانه وتعالى، مستول على أمرها، ومالك التصرف فيها: لا تتحرك حركة ولا تتنفس نفسا إلا بإذنه، وبعلمه.
وإذا كان ذلك هو سلطان الإله الذي أعبده وأتوكل عليه، فإنى لن أعبأ بكم ولا بآلهتكم.. {إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي إن الإله الذي أعبده، أمره واضح، وسلطانه قاهر، وحكمه نافذ، وأثره في الوجود لا يخفى على ذى نظر.. فالطريق إليه مستقيم واضح، لمن طلب التعرف عليه، والإيمان به.
وفى قوله {رَبِّي وَرَبِّكُمْ} مع أنهم لا يعترفون بربّه ربّا لهم، هو تقرير لأمر واقع، وحقيقة ملزمة، لا فكاك لأحد منها، رضى أو لم يرض، آمن أو لم يؤمن.. ولهذا فإنه بعد أن قرر هذه الحقيقة، عاد فخصّ نفسه بالإيمان بها وحده، ولم يدخلهم معه في الإيمان، فقال: {إن ربى على صراط مستقيم}.
قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}.
أي فإن آمنتم بالإله الذي آمنت به، والذي أدعوكم إليه، فقد اهتديتم، ورشدتم، وإن تتولّوا فلا متعلّق لكم بي.. {فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم}.
{وما على الرسول إلا البلاغ}.
ولستم أنتم عباد اللّه وحدكم، بل إن للّه عبادا كثيرين، يؤمنون به، ويقدرونه حق قدره، يجيئون بعدكم، ويقيمهم اللّه خلفاء بعدكم على هذه الأرض، وإنكم لن تضرّوا اللّه شيئا، ولن تنقصوا أو تزيدوا من ملكه شيئا، ذهبتم أو بقيتم، كفرتم أو آمنتم.. {إن ربّى على كل شيء حفيظ} أي مالك كل شىء، حفيظ على كل شىء، لا يستطيع مخلوق أن يغيّر أو يبدّل في ملكه ذرة من ذرات هذا الوجود.
قوله تعالى: {وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ}.
الأمر: الحكم، والقضاء الذي قضى به على هؤلاء القوم الظالمين، {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [82: يس].
وقد كان هذا الأمر الذي وقع على عاد هو ما رماهم اللّه سبحانه وتعالى به من مهلكات حملتها إليهم ريح صرصر عاتية.. وفى هذا يقول سبحانه: {وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ} [6- 8: الحاقة].
وكرر فعل النجاة، لأن اللّه نجّى هودا ومن معه من هذا البلاء في الدنيا، ومن العذاب في الآخرة، وذلك بما ساق إليهم من رحمته فهداهم إلى الإيمان، وصرفهم عن الكفر، وعزلهم عن القوم الكافرين، في الدنيا، والآخرة، على حين هلك الظالمون مهلكين.. مهلكا في الدنيا، ومهلكا في الآخرة.
قوله تعالى: {وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}.
فى الإشارة إلى جمع العقلاء بتلك، إشارة إلى أنهم ليسوا جمعا، وليسوا عقلاء.. ذلك أنهم قد صاروا ترابا في التراب، لم يبق من آثارهم إلا تلك الأطلال المتداعية، التي يمرّ عليها أهل مكة في تجارتهم إلى الشام.. فلا يجدون إلا خرابا مخيفا، يحدّث عن انقلاب حلّ في هذه المواطن، فمسخ طبيعة كل شيء فيها.. أرضها، وسمائها وجوها.. فلا تنبت الأرض شيئا، حتى الشوك، ولا تحمل السماء شيئا.. حتى السحاب الجهام، ولا يتحرك بين أرضها وسمائها ريح.. حتى السّموم!
فتلك هى ديار القوم، وهذا هو حصيد ما زرعوا.. فلينظر المشركون من أهل مكة ماذا حلّ بديار الظالمين، ولينتظروا ماذا يحلّ بهم هم، إن ظلوا على ما هم عليه من كفر وعناد.
وفى قوله تعالى: {جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} إجابة عن سؤال هو: ما ذا كان من أهل تلك الديار حتى حلّ بهم هذا المسخ؟ فكان الجواب: {جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كلّ جبّار عنيد}! والجبار العنيد، هو كل رأس من رءوس الكفرة والمشركين، الذين يتولّون كبر الحرب التي يعلنها أعداء اللّه، على رسل اللّه.
وفى قوله تعالى: {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} ما يسأل عنه؟
كيف جاء النظم القرآنى، محدّثا عن أنهم عصوا رسل اللّه، مع أنهم لم يعصوا إلا رسولهم هودا الذي أرسل إليهم؟
والجواب: أن رسل اللّه على طريق واحد، يقومون على أداء رسالة واحدة.. هى الدعوة إلى اللّه سبحانه، والإيمان به، وبكتبه، ورسله، واليوم الآخر.
فهم- من جهة- بمنزلة رسول واحد، يتجدد مع الزمن في صورة من ظهر منهم من الرسل.. وهم- من جهة أخرى- رسل كثيرون يجىء بعضهم إثر بعض في صورة رسول.. إذ لا يختلف أحد منهم عن صاحبه في مفهوم الرسول، وفى مضمون رسالته ومحتواها.
فهم رسل في رسول، وهم رسول في رسل! قوله تعالى: {وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ}.
أي أن هؤلاء القوم لم يتركوا وراءهم في هذه الدنيا خيرا يذكرون به، ولم يخلّفوا أثرا طيبا ينتفع به الناس بعدهم.. وإنما الذي تركوه هو ما يشهد عليهم بالبغي والضلال، والفساد في الأرض.. فكل من يمر بديارهم، أو يستمع إلى أخبارهم، لا يجد منهم إلا ريحا خبيثة، تجعله ينفر منها، ويلعن الجهة التي صدرت عنها.. {وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة} أي تبعتهم اللعنات بعد أن تركوا هذه الدنيا، وذلك هو بعض ما غرسوا فيها من شر، إذ لم تكن لهم صالحة فيما غرسوا.
راحوا فما بكت الدنيا لمصرعهم *** ولا تعطّلت الأعياد والجمع
وكذلك شأنهم في الآخرة.. فإن أهل الإيمان، إذ يرون ما ساق إليهم إيمانهم من نعيم ورضوان، يجدون لذة إلى لذة في أن يذكروا أهل الكفر، وما ركبوا في دنياهم من ضلال، وأن يرموهم باللعنة إذ فوّتوا على أنفسهم هذا المقام الكريم، وباعوها في الدنيا بثمن بخس رذل! وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ قالُوا نَعَمْ.. فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [44: الأعراف]- وفى قوله تعالى: {أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ..}.
تشهير بالقوم، وإذاعة لجريمتهم في الناس، واستدعاء لكل ذى سمع ونظر، أن يشهد هؤلاء القوم، وينظر إليهم وهم متلبسون بهذا الجرم الغليظ، فلا يقول فيهم إلا ما يسوءهم ويخزيهم.
وفى تكرار حرف الاستفتاح ألا وفى ذكر قوم هود بعد ذكر عاد.
في هذا كله تأكيد لذواتهم، التي توجّه إليها هذه اللعنات، والتي تعرض في معرض التشهير، والتجريم، حتى لا يقع أىّ لبس في أنهم هم المقصودون بهذا، وحتى لا يختلط أمرهم بغيرهم.. فإن التهمة خطيرة، والحساب عسير، والمصير سيّىء، بالغ الغاية في السوء.. فكان من الحكمة التي يدعو إليها مقتضى الحال أن ينبّه على هذا الخطر، وأن تقوم إلى جانب هذا التنبيه مؤكدات له، أشبه بتلك الإشارات الضوئية الحمراء، التي تظهر في مواطن الخطر، منبهة إليه، محذرة منه، قائلة بلسان الحال.. هنا خطر!! فخذ حذرك منه! وإلا فأنت وما جنت يدك!


{وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)}.
التفسير:
فى هذه الآيات عرض لقصة نبىّ آخر من أنبياء اللّه، هو صالح عليه السلام، وقد بعثه اللّه إلى قومه ثمود.
وكانوا يسكنون الحجر بين المدينة والشام.
ولم يكن موقفهم من هذا النبي الكريم بأحسن من موقف من سبقوهم من أهل الضلال والعناد.. قوم نوح، وقوم هود.
{وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً}.
والعطف هنا عطف قصة على قصة، وحدث على حدث.. وقد نصب {أخاهم} بفعل محذوف، تقديره: أرسلنا، أو بعثنا.
وهو أخو القوم.. أي منهم.. نسبا، وموطنا، ولغة.
{قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ}.
فهذا مجمل كل دعوة دعا بها نبىّ قومه.. الإيمان باللّه، والانخلاع عن كل معبود سواه.. من بشر، أو حجر! {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها}.
أي هو وحده- سبحانه- المستحق للألوهية، المستوجب للربوبية.. لأنه- سبحانه- هو الخالق الذي أوجد الناس من عدم.. {هو أنشأكم من الأرض} أي خلقكم من تراب هذه الأرض، وأنبتكم منها، كما ينبت الزرع، وينمو، وينضر، ويزهر، ويثمر.. كما يقول سبحانه: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً} [17: نوح].
{واستعمركم فيها} أي هيأ لكم أسباب الحياة فيها، ومكن لكم من عمرانها، فعمر تموها بإقامة المدن، وغرس الحدائق، وزرع النبات والحبّ، وتسخير الدواب والأنعام.. كما يقول تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [80- 81: النحل] فذلكم مما للّه في عباده.. خلقهم، ورزقهم، وأمدهم بأنعام وبنين وجنات وعيون.. فهل في شرع العقلاء ما يقضى بالولاء لغيره، والتعبد لسواه؟
{فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}.
ومع أن كثيرا من الناس في غفلة عن اللّه، وفى عمى وضلال عن السبيل المستقيم إليه فإنه- سبحانه وتعالى- يبسط لعباده يد المغفرة والقبول، ويبعث للضالين رسلا من عنده، يدعونهم إليه، ويذكرونهم بآلائه ونعمه، ويهتفون بهم: {أن استغفروا ربّكم ثم توبوا إليه}.
والاستغفار، هو طلب المغفرة: مما كان منهم من كفر وضلال، قبل أن يهتدوا ويرشدوا، ويؤمنوا باللّه.
والتوبة، هى الرجوع إلى اللّه، بعد الشرود عنه، وذلك في حال الإيمان، حيث يقع المرء في معصية، فيبعد بها عن اللّه، فيكون رجوعه إليه سبحانه بالتوبة عما وقع فيه.
ولهذا جاء العطف بثم.
لأنها تعطف مرحلة على مرحلة قبلها.
مرحلة الإيمان، على مرحلة ما قبل الإيمان، وهذا إشعار بأن كلّا منهما من عالم غير عالم الآخر.. وشتّان بين الإيمان والكفر، والنور والظلام! {قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوّا قبل هذا}.
بهذا السّفه، كان ردّ القوم على تلك الدعوة الكريمة التي دعاهم إليها صالح، عليه السلام.. لقد أنكروه حين سمعوا هذه الدعوة منه، وتغيرت في الحال حاله عندهم، وشاهت صورته في أعينهم. فلقد كان عندهم الرجل المرجوّا لكل ملمّة، المدعوّ لكل معضلة، المؤمّل لكل طالب خير، ومرتاد فلاح ورشاد.. ولكنه الآن- وقد دعاهم إلى هذه الدعوة قد صار في نظرهم إنسانا غير هذا الإنسان الذي عرفوه!. {يا صالح قد كنت فينا مرجوّا قبل هذا} أي كنت مرجوّا للخير والفلاح قبل أن تدعونا إلى هذا الذي تدعونا إليه.. أما الآن فلا رجاء فيك، ولا خير يؤمّل منك.
{أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا}؟ أي ما هذا الذي جئتنا به؟ وكيف طوّعت لك نفسك أن تقول هذا القول المنكر؟ وإذا لم نعبد ما كان يعبد آباؤنا، فمن نعبد؟ أنعبد إلهك الذي تدعونا إليه؟
{وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}!. فكيف نترك ما نحن عليه من يقين، قد اطمأنت قلوبنا به، وسكنت نفوسنا إليه- إلى هذا المعبود الجديد الذي تحدثنا عنه، ولم نعرفه، ولم نتعامل معه من قبل؟ أذلك مما يقول به عاقل، ويرضى به العقلاء؟
قوله تعالى: {قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ}.
البينة. البرهان، والدليل، والحجة.
والتخسير: الخسران بعد الخسران.
إن صالحا- عليه السلام- لعلى هدى من ربه، وعلى يقين من إيمانه به، وإنها لرحمة من رحمات ربه، أن هداه إلى الحق، وشرح صدره للإيمان.
وإنه- لهذا- لن يعصى اللّه، ولن يخرج عن طاعته، وامتثال أمره، فذلك بعض ما يوجبه عليه ولاؤه لمن خلقه، ورزقه، وهداه إلى الإيمان، وإلا كان مستحقّا للانتقام، والعقاب.. وإنه لن يجد ناصرا ينصره، ويدفع عنه ما يريد اللّه به! وشتّان بين ما يدعوهم إليه صالح، مما فيه رشدهم وخيرهم، وما يدعونه هم إليه، مما يعرضه لنقمة اللّه وعذابه.
وفى قوله تعالى: {فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} إشارة إلى أنه إذا أخذ برأى قومه، وخرج عن طاعة اللّه، ووقع تحت نقمته، ثم دعاهم إلى نصرته من دون اللّه، فلن يكون له منهم إلا بلاء إلى بلاء، وخسران إلى خسران! لأنه إنما ينتصر بمخذولين، واقعين تحت النقمة والبلاء، فلن يقدموا له- إن قدموا شيئا- إلا ما عندهم من بلاء وعذاب! {فما تزيدوننى غير تخسير}.
قوله تعالى: {وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ}.
وبين يدى تلك الدعوة، التي دعا بها صالح قومه إلى الإيمان باللّه، أقام لهم آية متحدية من آيات اللّه، تشهد له بأنه رسول اللّه.. فهذه ناقة اللّه. قد نصبها اللّه لهم آية، ورفعها لأعينهم، ليشهدوا منها ما لم يشهدوا من النّياق التي عرفوها.. إنها ناقة على صفة عجيبة.. إنها آية من آيات اللّه، ولهذا جاء وصفها بأنها {ناقة اللّه}، أي آيته إليهم.. فليأخذوا منها الشاهد الذي يشهد بقدرة اللّه، ويحدّث عن علمه، وحكمته، ومن ثمّ يقوم لهم منها دليل آخر على صدق الرسول، الذي جاءهم يدعوهم إلى اللّه.. فليصدقوه وليؤمنوا به، وليدعوا الناقة تأكل في أرض اللّه- شأنها في هذا شأنهم، ولها في الأرض مالهم، لأنها ناقة اللّه، والأرض أرض اللّه، وهم عبيد اللّه، والأرض التي يعيشون عليها أرض اللّه.. وإذن فليدعوا ناقة للّه تأخذ رزقها من أرض اللّه، ولا يمسّوها بسوء! فإن اعتدوا عليها، وخالفوا أمر اللّه فيها، فلينتظروا العذاب القريب الذي سيحل بهم! ولقد كان من سفه القوم، وجهلهم، وغلبة الشّقوة عليهم، أن تخطت نظرتهم إلى الناقة، كل شيء فيها، مما يكشف لهم الطريق إلى اللّه، وإلى الإيمان به- ووقفوا عند العذاب، الذي أنذروا به منها، إذا هم عرضوا لها بسوء- فعملوا على كشف هذه الآية منها، واستحلابها من ضرعها! وذلك لأنهم كانوا على تكذيب بكل ما حدّثهم به {صالح} عنها، وإنهم لكى يقيموا البرهان على كذبه، استعجلوا العذاب الذي أنذرهم به إن هم مسّوها بسوء.
فما هو إلا أن يعقروا الناقة حتى يأتيهم هذا العذاب، إن كان هناك عذاب، وإلا فقد افتضح أمر صالح، وظهر كذبه! وقد فعلوها! {فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم، وقالوا يا صالح: ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين} [77: الأعراف].
وهكذا يلعب الأطفال بالنار، فتقع بهم الواقعة، ويحلّ بهم العذاب الذي لا مردّ له! قوله تعالى: {فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}.
وتلك آية أخرى.. إنها العذاب الذي سيأخذهم اللّه به، بعد ثلاثة أيام.
وفى توقيت وقوع العذاب بثلاثة أيام:
أولا: أن يظلوا خلال تلك المدة واقعين تحت وطأة تلك الخواطر المزعجة المقلقة، بين التصديق والتكذيب، وكانوا كلما مضت لحظة من الزمن ازداد قلقهم واضطرابهم، انتظارا لما يطلع به عليهم هذا الوعيد، في اليوم الثالث من تلك الأيام التي أقتت لهلاكهم.
وثانيا: حصر الأجل المضروب لهلاكهم بثلاثة أيام، هو غاية ما يمكن أن يقع في النفس موقع الاهتمام له والالتفات إليه.. ولو امتد الزمن إلى أكثر من هذا لما التفتت إليه النفوس هذا الالتفات الذي يشدها إليه، ويقيمها على همّ وقلق من لقائه.. ولو قصر الزمن إلى ما دون ذلك لقصرت فترة العذاب النفسي الذي عالجه القوم قبل أن يهلكوا.
فهذه الأيام الثلاثة التي عاشها القوم قبل أن يحلّ بهم الهلاك قد أقتت بحكمة الحكيم العليم، فكانت بوتقة عذاب، تجرّع منها القوم جرعات الموت قبل أن يحل بهم الموت..!
لقد شخصت أبصار القوم إلى هذه الأيام الثلاثة وما يطلع عليهم في أعقابها.
وقد طلع عليهم منها الويل والبلاء:
{فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منّا ومن خزى يؤمئذ إن ربك هو القوى العزيز}.
لقد نجى اللّه صالحا والذين آمنوا معه، إذ عزلهم عن القوم الظالمين، وما رماهم به من مهلكات، فهو- سبحانه- الذي لا يعجزه ما يعتزّ به الظالمون من قوة وسلطان، وما يعتصمون به من قلاع وحصون.
{وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها.. أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ}.
والصيحة التي أخذ بها القوم، هى صيحة الحق، وهو صوت العذاب الذي نزل عليهم، فرجفت بهم الأرض منه، {فأصبحوا في ديارهم جاثمين}.
أي جمد الدم في عروقهم، من رجفة الصيحة، فلم يتحرك أحد منهم حركة، ولم يتنفس نفسا! إنها صيحة تحمل في كيانها صاعقة، أقرب مثل إليها الرعد المحمل بالصواعق المهلكة.. وهكذا صاروا جثثا هامدة، وتحولت ديارهم إلى صمت مطبق.. لا حسّ ولا نفس بها.. حتى لكأن لم تكن فيها حياة من قبل {كأن لم يغنوا فيها} أي كأن لم تكن فيها إقامة، وسكن! لقد ذهب كل أثر من آثارهمإلا هذا الخراب الذي اشتمل على كل شيء كان هناك.
وقوله تعالى: {أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ} هو صدى مردد لما شيّع به قوم هود من قبل، {ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود}.
وقد بينا من قبل ما في هذا الدعاء الذي أعقب هلاكهم.
أما الناقة، وما يقول المفسرون في أوصافها، فقد عرضنا لها من قبل عند تفسير قصة صالح في سورة الأعراف.
وحسبنا أن نذكر هنا أنها آية من آيات اللّه، وضعت بين يدى القوم، لتكون امتحانا لهم وابتلاء.. وليس من الحتم اللازم أن تكون على صفات جسدية خاصة، تخرج بها عن طبيعة النياق.. يل يكفى أن تكون مجرد ناقة، امتحنوا بامتثال أمر اللّه فيها، وهو تركها تأكل في أرض اللّه، وألّا يمسوها بسوء، فإن امتثلوا أمر اللّه نجوا، وإلا هلكوا.
وهى في هذا تشبه الشجرة التي نهى اللّه آدم عن أن يأكل منها.. ولم تكن هذه الشجرة إلا واحدة من أشجار الجنة، ولم يكن النهى عنها إلا امتحانا وابتلاء.


{وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)}.
التفسير:
وهذه قصة إبراهيم عليه السلام، وقد ضمت إلى قصة لوط، إذ كانت دعوتهما واحدة، وكان قوما هما متجاورين متقاربين، ديارا ونسبا، وزمنا.
إذ كان لوط- كما يقول المؤرخون- ابن أخى إبراهيم.
{وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}.
الرسل هنا، هم ملائكة الرحمن، جاءوا إلى إبراهيم في صورة بشريّة.
والبشرى التي جاءوه بها، هى ما بشر به من الولد، بعد أن بلغ من الكبر عتيّا، ويمكن أن تكون البشرى ما حمله الملائكة إليه من أمر ربه بهلاك قوم لوط.. إذ لا شك أن في هذا انتصارا للحق، وخزيا وخذلانا لأهل الضلال والزيغ، وذلك مما يفرح له المؤمنون، وتنشرح به صدورهم.
{ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر اللّه}.
والعجل الحنيذ: السّمين الذي نضج شيّا بالنار.
وفى قوله تعالى: {قالَ سَلامٌ} إشارة إلى أن إبراهيم قد أخذ بمجىء هؤلاء الرسل، وأنهم ظهروا فجأة في بيته، فلم يدر من أين جاءوا.. فأنكرهم ولكنه لم يردّهم، وإنما ردّ عليهم تحيتهم ردّا خاطفا، متجمّلا، يحمل أمارات الاستفهام والتعجب والإنكار، والخوف.. {قالوا سلاما، قال.. سلام!} وإلى هذا يشير قوله تعالى في آية أخرى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [25: الذاريات].. ويقول سبحانه في آية أخرى كذلك: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [51- 53: الحجر].
فكان التبشير بالغلام على كبر ويأس، هو الذي يذهب بكل ما وقع في نفس إبراهيم من خوف ووجل، سواء أكان وجلا عارضا من ظهور الملائكة له على تلك الصورة، أم وجلا سكن في نفسه من فوات الأوان لإنجاب ولد! قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ}.
ولقد تكشف لإبراهيم من القوم ما قوّى ظنونه فيهم، وأنهم على حال لا تبعث على الطمأنينة من جهتهم، فها هو ذا يقدّم لهم ما يقدّم للضيّفان، فلا يأبهون له، ولا يمدون أيديهم إليه.! وهنا تتحرك دواعى الشك في نفسه، وتسرى رعشة الخوف في كيانه، ولكنه يغالب خوفه، ويمسك به في صدره- كما يقول سبحانه- {وأوجس منهم خيفة} أي وجد في نفسه خوفا.
فيسأل القوم سؤال المنكر المستريب: {ألا تأكلون؟} [27: الذاريات]- {قالوا لا تخف} إنا رسل ربك.. {إنا أرسلنا إلى قوم لوط}.
فيسكن لذلك روع إبراهيم، وتطمئن نفسه، ويعلم أنهم رسل اللّه، قد أرسلوا بالهلاك لقوم لوط.. إنهم لم يرسلوا إلى لوط، وإنما أرسلوا إلى قوم لوط، وليس لقوم لوط عند اللّه إلّا البلاء والهلاك..!
قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}.
قائمة: أي كانت واقفة ترقب ما يكون بين إبراهيم وهؤلاء الضيفان الذين جاءوا إليه على تلك الصورة التي أخافته.. فلما سمعت منهم أنهم رسل اللّه ذهب عنها الرّوع، ولم تملك نفسها من إظهار الفرحة بهؤلاء الرسل الكرام الذين حلّوا بهم ضيوفا.. فضحكت.
وفى هذا ما يكشف عن طبيعة حبّ الاستطلاع عند المرأة، وأنها لا تملك نفسها من أن تتعرف إلى كل ما يدور حولها، مما يتصل بها أو لا يتصل بها.
هذا ويذهب بعض المفسرين في تأويل كلمة {فضحكت} إلى أنها بمعنى حاضت، وجاءوا لذلك بشاهد من اللغة، وجدوه في قول الشاعر:
وضحك الأرانب فوق الصّفا *** كمثل دم الجوف يوم اللّقا
ومع أن الشاهد- إن صح- فإنه لا يدل على أكثر من أن استعمال الضحك بمعنى الحيض هو استعمال شاذ غير مألوف، وحمل القرآن الكريم على هذا الشاذ مما لا يليق ببيانه وبلاغته- ونقول مع هذا، فإن في قول امرأة إبراهيم: {يا ويلتى أألد وأنا عجوز} منكرة أن تلد بعد أن جاوزت من اليأس- ما يبعد حمل لفظ الضحك على الحيض، لأنها لو كانت قد حاضت لما واجهت ما بشّرها به رسل اللّه بهذا الإنكار الصريح! {يا ويلتى.. أألد وأنا عجوز وهذا بعلى شيخا.. إنّ هذا لشىء عجيب؟}.
وإسحق الذي بشرت به، هو ابنها.. أما يعقوب، فهو ابن ابنها إسحق.. وفى هذا توكيد لهذه البشرى، وأن ابنها هذا الذي بشرت به، سيولد له ولد هو يعقوب، وأن هذا الحفيد، هو أشبه بمولود ثان لها! {قالوا أتعجبين من أمر اللّه رحمة اللّه وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد}.
إنه أمر من أمر اللّه.. ومشيئة له.. فهل في أمر اللّه إذا كان على غير ما يألف الناس- ما يثير العجب والدّهش؟ {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} [82: يس].
وفى قوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} تطمين لها، وتوكيد لهذه البشرى التي بشرت بها، وأنها رحمة من اللّه وبركة، على أهل هذا البيت الذين اختصهم اللّه برحمته وبركاته.. وإذ كانوا كذلك، فإن ما يتلقونه من اللّه من فضل لا يكون موضع عجب، وإن جاء على غير ما يعهد الناس، فإن للّه سبحانه في أوليائه ألطافا، لا ينالها غيرهم، ممن لم ينزلوا منازل رحمته ورضوانه! وأهل البيت: منصوب على الاختصاص.. ويجوز أن يكون منصوبا بالنداء: أي يا أهل البيت.
وفى قوله تعالى: {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} إشارة إلى أنه- سبحانه- يحمد لعباده الصالحين ما يتقربون به إليه من طاعات وقربات، فيجزيهم على ذلك الجزاء الأوفى، ويرفعهم إلى منازل العزة والمجادة والشرف.
وإبراهيم عليه السلام، ممن أعطى اللّه كيانه كله، فأسلم له وجوده ظاهرا وباطنا.. فاستحق أن يحمد، ويمجّد.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى بعد ذلك.
{إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب}.
والأوّاه: كثير التأوه والشّكاة إلى اللّه، من تقصيره في حقّه، والعجز عن الوفاء ببعض شكره.. وهذا شعور أهل التقوى.. لا يرضيهم من أنفسهم ما يقدمون من طاعات وقربات، وإن اجتهدوا، وبالغوا في الاجتهاد.. إنهم دائما على شعور بأنهم مقصّرون في حق اللّه.
والمنيب: الراجع إلى اللّه، التائب إليه.
وقد وصف اللّه سبحانه وتعالى إبراهيم بثلاث صفات: {إن إبراهيم لحليم.. أوّاه.. منيب}.
وهى صفات كلهن الكمال كله، والحسن جميعه.
وحسبه شرفا ورفعة أن يحلّيه ربه بصفة من صفاته سبحانه، وهى صفة الحليم تلك الصفة التي تزين الوجود كله، وتجمع الإحسان جميعه، وفى الأثر: «الحلم سيد الأخلاق».
فكيف إذا كان من حلم الحليم، اللّه رب العالمين؟
ولهذا قدّم على الصفات التي أضفاها اللّه سبحانه على إبراهيم، من التأوّه، والإنابة.
والآية التي جاءت قبل هذه الآية وهى قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ} هى من سياق القصة، وقد جاء قوله تعالى: {إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} وصفا كاشفا لإبراهيم، معترضا بين حدثين: تبشيره بالولد، ومجادلته في قوم لوط.. وذلك ليأخذ كل حدث منهما بنصيبه من إبراهيم، وما اشتمل عليه من خلق كريم.
فهو أولا، قد استحق البشرى بهذا الولد، لأنه من أهل اللّه، وأنه حليم، أوّاه، منيب.
وهو ثانيا.. يسأل اللّه أن يلطف بقوم لوط، وأن يدفع عنهم هذا البلاء الموجّه إليهم.. لأنه حليم أواه منيب.. فهو إذ يرى فضل اللّه عليه، ورحمته به، يريد أن يكون للناس من حوله نصيب، من هذا الفضل، وحظ من تلك الرحمة.
ولكن للّه سبحانه وتعالى حكمة في عباده.. يختص برحمته من يشاء.
وفى قوله سبحانه: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ} وفى جعل جواب {لمّا} فعلا مضارعا بدلا من الفعل الماضي الذي يقتضيه السياق- في هذا إمساك بإبراهيم، وهو في موقف المجادلة ليتلقّى وهو في هذا الموقف، الأمر الذي وجهه إليه ربه، بالإعراض عما هو فيه، من مجادلة عن هؤلاء القوم، ودفاع عن جرمهم، وهذا ما جاء في قوله تعالى: {يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}.
والتقدير: فلما ذهب عن إبراهيم الروع، أي الخوف، وجاءته البشرى، ها هو ذا يجادلنا في قوم لوط!! وفى هذا إنكار على إبراهيم أن يقف في هذا الموقف، فيجادل عن قوم قد بلغوا من السوء ما أنكرته الأرض عليهم.
ثم لا يكاد إبراهيم يأخذ في المجادلة حتى يجيئه أمر اللّه: {يا إبراهيم أعرض عن هذا}.
ولو جاء جواب {لمّا} فعلا ماضيا هكذا {جادلنا} لما كان لهذا الأمر، فى قوله تعالى: {يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} هذا الوقع الصادع على نفس إبراهيم، ولأفلت من يده ما كان ممسكا به من المجادلة.. لأنه كان قد جادل فعلا، وانتهى الأمر! أمّا في هذه الحالة، فهو لا يزال يسأل ربه العفو والرحمة لهؤلاء القوم، ولا تزال الكلمات على شفتيه.. فإذا سمع أمر اللّه بالإعراض عن هذا، أمسك لسانه وابتلع ما كان يجرى عليه من كلمات! وفى التعبير عن مراجعة إبراهيم ربّه في قوم لوط بالجدل، وتسميته جدلا، إشارة إلى أن ما كان من إبراهيم، هو مجرد جدل، وأن الجدل لا يثمر ثمرا نافعا، ولا يبلغ بصاحبه غاية.
وقد أشار القرآن الكريم إلى ما كان من إبراهيم في هذا المقام، فقال تعالى: {وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ. قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها} [31- 32: العنكبوت].
وأنت ترى أن إبراهيم كان مجادلا للملائكة، ولم يكن مجادلا للّه.
ولكنهم إذ كانوا رسل اللّه، والأمناء على ما أرسلوا به، فقد جعل جدله للملائكة، جدلا للّه سبحانه وتعالى، وفى هذا تكريم لرسل اللّه، وإضافة لهم إلى اللّه رب العالمين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7